.. جوعٌ قاتل.. حرٌ قائظ..
جيبٌ فارغ.. و الحيُل صِفر..
لا عملَ مُناسب أو غيَر مُناسب..
فقط بضعُ جنيهاتٍ ستحلُ الأزمة..
ستُحيلُ الكونَ جنة..
ولكن من أين..؟
من سيعطفُ علي شابٍ في عُمره..
مكتملَ الصحة ظاهرًا.. كسيرَ النفسِ حقيقةً..
حتى ذلك العمل المتهالك كأجير..
بكسر يده عنه تخلي.!
فقط بضعُ جنيهات.. ستسدُ جوعه..
ستعينه علي احتمالِ الذل قهراً..ستسقيه الفقر شهداً..
و لكن من أين له بتلك الجنيهات.!
لم تعد قدماه الكليلتان تسعفانه..
و لم تعد نفسه الثائرة لتحتمل
أكثر..
قرر أن يحشر جسده في أي علبة
سردين (مكروباص) لتقله إلي ذلك الجحر حيث يسكن..
بجواره جلست سيده وطفلها
الصغير.. الذي قضى الطريق كلهُ تارةً يبكي . وتارةً يُداعبُ الدمى الكثيرة المعلقة
في سقف العربة.. ويبكي ثانيةً ليدفع أُمه التي كانت تنهره بشدة لأن تُحضر له
واحدة..
جلس في ضيق يُراقب كُل
تلك الدمى المعلقة.. ما الجدوى من كُلِ هذه الدُمى المعلقة المُصطدمة بالرأس كل
حين.. المُعلقةُ في تزاحُمٍ مُنفر..
أيُ أحمقِ هذا الذي أسرف
ماله ابتغاءً لمثل هذا الهُراء..!!
ولكن لحظه..!!
ماذا لو.....!
ماذا لو استطاع أن يأخذ
واحدةً من هؤلاء ويبيعها ببضع جُنيهات.. ستحلُ أزمةَ جوعه على الأقل.. إنهم
كثيرون.. ولن يضير أحد أن تنقُص واحده.. وهي كذلك ليست بالشئ الثمين..
ولكن..!!
أليست تلك سرقه..! حتى
وان كان قرشاً واحداً.. أليس ذلك يُعدُ سرقة..
كلا.. ليست سرقه..إنها
فقط بضعُ جُنيهات.. مُقابل إحدى تلك الدُمى السخيفة.. التي لن يلحظ غيابها ذلك
السائق المُتهور..
نظر إلى السائق خلسة..
ليجد على وجهه ذلك الاستهتار المُستفز,, وذلك البرود المُنفر..
شجعه شيطانه ليُكمل..
إنها فقط بضعُ جنيهات..
لن تُشكل حتى ذرة فارق مع ذلك المُستهتر..
ــ ـــ
انتظر حتى انشغل السائق..
وصارت العربة شبه خاليه..
لينتزع إحدى تلك الدمى من
مكانها.. ويُخبئها في صمت داخل أغراضه..
أعطى للسائق ما تبقي معه
من قروشٍ كأُجرة.. ونزل قاصداً مسكنه في البدروم.. إن جاز أن يصفهُ بأنهُ مَسكن..
حسناً...
سيُنظفُ تلك الدُمية
بعناية.. ويُعطيها لأحدِ أطفال سُكانِ العمارة مقابل بضع جُنيهات.. تُقيم أوده حتى
الصباح ليبدأ رحله عملٍ مُضنية..
في الطريقِ قابل
"مُنير" أحد الصغارِ في العمارة..
عرض عليه الدمية.. ففرح
بها كثيراً... وأخبره أن ينتظر حتى يذهب ليُحضر له النقود من والده..
أخذ من الطفل النقود في
فرح.. وهرع ليشتري بجزء طعام يُحييه.. وادخر بضع قروش لرحله المواصلاتِ في الغد..
آملاً أن تلك المُغامرة
ستكون الأخيرة.. وآملاً في الحقيقةِ أنها انتهت..
في طريقِ عودته سمع مُنير
يتشاجر مع أخيه على تلك الدمية.. ورآهما يستبقان ليتعاركا..
نظر لهما في غير مبالاه و
ذهب إلى غرفته.. ليرتمي قتيلاً على فراشه من التعب..
لم يمضِ وقتٌ طويل حتى
سمع دقاً شديدا على باب غرفته.. ذهب ليفتح في غضب.. ليرى في النهايةِ رجال الشرطة..
يأخذونه معهم في غير رفق..
ولا تُقابل استفساراته
وتوسلاته سوى بالرفض.. و الصمت..
ذهب معهم وهو ذاهلٌ غير
مُصدق ماذا حدث.. لا يُمكنُ أن تكون سرقةُ الدُمية التافهة هي وراء كل هذا..!!
في مركز الشرطة.. عرف
السبب..
لقد كانت تلك الدمية..
تؤؤي داخلها أكياساً صغيرة من المُخدرات...!!
الآن عرفَ لمَ كان
السائقُ يُعلقُ كل تلك الدُمى الكثيرة.. ولم كانت ملامحه تقتلها البرود..
فما هو إلا تاجرٌ لتلك
السموم.. يعملُ كسائقٌ للتغطية..
وها هو الآن مُتهم.. في
جريمةِ اتجارٍ في المُخدرات.. بسرقةٍ تافهة.. مُقابل بضعِ جُنيهاتٍ حقيرة..
خضوعاً للحظةِ شيطانٍ
آثم.. مدفوعاً بحنقٍ وغيظٍ على كُلِ موجودات حياته..
متبوعاً بندمٍ لا يعرفُ
له مدى.. وعقابٌ لا يستبينُ له حدود!!