نُصر علي أن يدخل أولادنا كلية الطب، بينما لا نثق في الأطباء
سياسةٌ غريبة وقمة في التناقض تلك التي يسير بها مجتمعنا
المصري الغريب.. فنحن نربي أطفالنا لكي يصيروا أطباء..نغرز في أذهانهم تلك الصورة الوردية
البعيدة عن الواقع صورة البالطو الأبيض الخيالي..العيادة النظيفة..العمارة ذات
الثلاثون طابقاً العروس الجميلة السيارة الفارهه..أو العربية..إنها أسطورة الخمسة
عين كما يحلو لشعبنا البسيط أن يسميها..
ويظل السباق محموماً في المدارس والثانوية العامة بين
طلاب القسم العلمي ..الكل يبحث عن حلم البالطو الأبيض_إلا من ندر_حتى وان لم يكن
هذا هو اختياره فسيكون اختيار أهله وأقربائه..فهم يحلمون منذ البداية بطبيب العائلة(:
ذلك الكائن الذي يصبح حقاً مشاعاً لكل فردٍ في العائلة..فالكل
مقتنعٌ تماما بأنهم سر نجاحه،وسبب تلك الأبهة _باللغة المصرية_وهم لا يعرفون أو
يتجاهلون ما وراء الكواليس من عذاب مرير في دهاليز كليات الطب بجامعاتها المختلفة..أو
أروقه المستشفيات التي تتكسر علي أعتابها كل أحلام الطلاب بمستشفيات جرايز اناتومي
و هاوس..
على الرغم من تلك الرغبة المحمومة المشتركة في كل طبقات
المجتمع..مع اختلاف صورها واختلاف التعبير عنها .إلا أننا شعبٌ يكره الأطباء،ويثق
في الصيدلي صاحب الصيدلية التي تقع في أول الشارع أكثر مما يثق في ابنه شخصياً..
فنحن شعبٌ لا يفكر في استشارة الطبيب إلا بعد أن تفشل
الكثير من المحاولات والعشرات من الأدوية بل وقد تتحول الحالة البسيطة الأولية إلى
حاله متفاقمة وكل ذلك تحت العبارة المشهورة::إنا مبستريحش لدكاترة،دول مبيفهموش
حاجه!!!
أتذكر تلك الجملة العابرة الطريفة في أفلامنا القديمة في
الريف..عندما كان احدهم يتحدث عن الطبيب بيطري قائلاً:الدكتور البيطري ده أهم واحد
في البلد..ده الواحد مبيوديش عيل من عياله للدكتور لو بيموت،انما لو الجاموسة تعبت
لازم نطلبلها الدكتور.
ثقافةٌ أصيلة ومتأصلة نتشاركها برغم اختلاف الثقافات
واختلاف الطبقات ،ربما كان ذلك رغم انفنا فقد أصبح ذلك مكوناً من مكونات شخصيتنا..
ولا أُعفي أبناء المجال الطبي من هذه الثقافه..فإذا
نظرنا إلي أنفسنا نحن أبناء كلية الطب..تجدنا نسير علي نفس النهج، نترك المرض
يتملكنا والإعياء يستهلكنا ونأبى استشارة الطبيب إلا بعد أن تتفاقم الأمور وتعجز
خبرتنا العظيمة بأدوية المنزل عن استيعابها..
لا أستطيع أن القي باللوم كاملاً علي ثقافة
مجتمعنا..فتلك الثقافة لم تنشأ من فراغ ،انما من تلك الخبرة السيئة وذلك الباع
الطويل مع الطب والأطباء والمستشفيات في مصر، فكم من مريضٍ مات نتيجة الإهمال الطبي..وكم من مستشفي تخلو
من ابسط الإمكانيات اللازمة لعلاج الحالات البسيطة للمرضي..فما بال غرفه
العمليات..وكم من طبيبٍ يجهل أسس التعامل مع المريض وينسي ضميره ومراعاة حق بلاده
عليه في عمله ويتفرغ فقط لعيادته الخاصة أو مستشفاه الخاص..
إنها ثقافة تبادلية ..تحتاج إلي إعادة بناء جسور الثقة ..وتحتاج إلي إعادة بناء
الهيكلة الطبية..التي ننادي جميعاً بتطويرها ولازال كل حديثنا حبراً علي ورق..
سيظل بداخلنا دوماً الأمل في التغيير..تلك الكلمة التي
ننتظرها منذ امدٍ طويل..وانت تنتقل إلينا روح الغرب في مستشفياتنا وهيئاتنا
الحكومية وخدماتنا ومرافقنا العامة..بدلاً من اقتصارها علي ملابسنا التي اكتست
بطابع غربي أو أفلامنا ومسلسلاتنا وثقافات شبابنا التي نست أننا أمة
إسلامية..وحضارة عربيه..
وسيظل الأمل باقياً في أن نتحول من أمةٍ تفرح بشهادات
كلية الطب..وتحتقر كل من يمارسون مهنتها..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق